مقدمة:
الحمد لله فاتحِ أبواب المقال، ومانحِ أسباب النوال، ومُلْهِمِ جواب الفُتْيا والسؤال.. نحمده سبحانه حمداً يستغرق البُكَرَ والآصال، ويستوعب الأماكن والأزمان ويـضيء الأطلال.. نحمده، والتوفيق لحمده من نِعَمِه، ونشكره، والشكر كفيلٌ بالمزيد من فضله وكرمه، ونستغفره ونتوب إليه من ذنوبنا التي توجب زوال نعمه وحلول نقمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه وحجيته على عباده، رفع الله شأن هذه الأمة ، وجعله شهابها الذي يزيل عنها من دُجَى الإشكال كل ظُلْمة، يجلي بفتياه ظُلَم المسائل المدلهمّة، ويبين الصواب ويكشف من أمرها كلَّ غُمّة.
أما بعد:
فإننا نعيش في عصر الانفتاح والتواصل المفتوح، كل شيءٍ فيه مسموح..
البطولة والإيجابية والمواكبة!!! أنْ تحشر أنفك في كل شأنٍ، وتبدي رأيك في كل موضوع، وتحكم عاجلاً على كل قضية، وتفتي في كل نازلة وإنْ لم تكن من أهل الفُتيا..
في هذا الزمان:
الفكر علا على الفقه !!..
ـ والأمراء مطاعون أكثر من العلماء !!..
ـ والخطباء أرفع من الفقهاء !!..
ـ والشعراء معظَّمون لا العلماء..
ـ والفنّان مكرّم أكثر من صاحب القرآن..
ـ وصاحب البيانو والكمنجة معظّمٌ في الساحة أكثر من صاحب الحجة وسالك المحجة..
ـ والصحفي هو الموجّه المرشد المؤثّر المقّرر المكوِّن للرأي العام..
هذا الزمان الذي لا حرمة لمقدّس ولا حرمة لدين، فحُقّ لنا البكاء:
يا زمانـــــاً بـكـــى عليــــه الــــوفــــــاء * وقلا عيشه الأُلَــــىَ الأتقياءُ
مَاجَ في عهدك الرَّدَى والبلايا * وتجنَّـى على السنا الظلـــــــماءُ
هذا الزمان هو الذي وصفه نبينا ☻ وتحققت نبوته فيها عليه الصلاة والسلام، فيما أخبر عنه أبو الدرداء رضي الله عنه قَالَ : >كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ☻ فَشَخَصَ بِبَـصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ:( هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ([1]) الْعِلْمُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ) فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: > كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا < فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:(ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ ! إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟) <([2]).
وهذي السنون لعلها هي تلك التي وصفها النبي♀ بالسنوات الخدّاعات وتنبأ بها محذّراً أمته مما يكون فيها فقال في حديث أبي هريرةؓ: (سيأتي على الناس سنواتٌ خدّاعاتٌ، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه [وفي رواية: الفويسق] يتكلّم في أمر العامة)([3]).
في هذا العـصر والزمان العجيب تكون الحاجة إلى ضبط الإفتاء والتشديد في ضبطه، وتجويد صناعة الفتوى وتطويرها بما يحقق مقاصدها أمراً لازماً وواجباً متعيناً على أهل المعرفة المنتبهين للواقع القارئين لمآلاته في الدعوة والأمة.
من أجل ذلك كانت هذه الرسالة التي قامت على فصلين:
` الفصل الأول: الفتوى مفهومها ومنزلتها وخطرها، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في تعريف الفتوى ومفهومها.
والمبحث الثاني: في منزلة الفتوى والحاجة إليها.
والمبحث الثالث: خطر الفُتيا والحذر منها
` والفصل الثاني:في ضوابط الإفتاء، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في الضوابط العلمية التأهيلية.
والمبحث الثاني: في الضوابط الخلقية الذاتية.
والمبحث الثالث: في الضوابط المنهجية السلوكية.
لك الحمد ربي ولك الشكر سبحانك أنْ وفقتني لهذا العمل، فأسألك اللهم باسمك الأعظم الذي ما سُئلت به إلا أعطيت!! أن تجعل هذا الكتاب لقارئيه نافعاً ، وللمفتين مرشداً، ولأهل العلم مُسعداً، ولطلاب العلم مرجعاً مَعِينَاً ومُعِينَاً.. أسألك ربي تباركت وتعاليت أنْ تجعله من عملي الصالح، وأنْ تجعل عملي كله صالحاً، وأن تجعله لوجهك خالصاً، وأن لا تجعل لأحدٍ فيه شيئاً. اللهم وفِّقني لما تحبّ وترضى .. اللهم سدّد قلمي، وصوّب رأيي، وصحّح فكري، وأرشدني إلى ما ينفع المسلمين علماً ودعوة.. اللهم آمين.
راجي الرضا والقبول من ربه
عبد الله الزبير عبد الرحمن
الفيحاء شرق النيل
19/7/2018م
([1]) يختلس: أي يختطف ويسلب علم الوحي منهم، فلا تجد مستفيداً منه مفيداً به إلا ما رحم الله..
([2]) أخرجه الترمذي في السنن برقم 2653، والنسائي في السنن الكبرى برقم 5878 والحاكم في المستدرك برقم 338 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي كما صحح إسناد الترمذي الشيخ الألباني ج5 ص 31.
([3]) أخرجه أحمد في المسند برقم 13324، وابن ماجة برقم 4036. وحسّن شعيب إسناد أحمد في المسند( 3/220) وفي إسناد ابن ماجة إسحاق بن أبي الفرات وثّقه ابن حبان.
