المقـدِّمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وصفيّه وخليله أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
اللهمّ فصل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطاهرين الطيبين وأصحابه الغرّ الميامين الذين شادوا الدين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه رسالة قصدت أن أوجهها إلى عموم المسلمين، علمائهم وعوامهم، وإنْ كان العلماء عالمين بموضوعها جملة أو تفصيلاً، وذلك لخطورة الدواعَى التي أُطلقت للإنكار على جماهير فقهاء الأمّة الأخيار في سائر الأعصار والأمصار قولهم بوجوب قتل المرتدّ ما ثبتت ردته وأظهرها وأعلن بها وانتفت المسقطات وأبى العودة والتوبة مصرّاً على ردّته معلناً خروجه. فأثار بعض الكتّاب وبعض من يسمّون ويعرفون بالمفكرين الشبهات بغرضين:
أولهما: تخطئة الفقهاء وتغيير حكم الشرع في المرتدّ يقولون: قتل المرتد لا يجوز، ولا يصحّ مؤاخذة المرتد وعقوبته لمجرد ردّته، فلا يعاقب إلا بأمر زائد عن الردّة، كالخروج على الدولة خاصة.
وثانيهما: حسباناً منهم أنّهم يحسنون صنعاً، وذلك حين ظنّوا أن عقوبة الإسلام للمرتد يضرّ بسمعة الإسلام، وبالتالي يضرّ بالدعوة إليه في الغرب، وعليه: فلا بدّ من تحسين وجه الإسلام بنفي كونه إرهابياً، وأنه لا مناهضة فيه لحقوق الإنسان، ولا مخالفة له للمبادئ الإنسانية العليا كالحريات الأساسية والحرية الدينية والحرية الشخصية، وغير ذلك، فظنوا أن ذلك دفاع عن الإسلام وأهله، فسعوا في بثّ الشبهات حول حكم الردّة في الإسلام حتى يخففوا من وطأة الكافرين وكراهتهم لهذا الحكم. وقد أخطئوا في كلا الغرضين..
أمّا الأول: فليس من السهل حتى على الفقيه المتمكن من الفقه وعلم الشريعة منطوقها ومفهومها ، منقولها ومعقولها، الملمّ بمسالك الاستنباط وأدوات الاجتهاد القادر على القياس والإلحاق والتخريج بلا معاناة أو نصب، الموافق للصواب كثيراً، ليس من السهل حتى عليه مخالفة جماهير العلماء وإجماع الفقهاء لا سيما في أمرٍ مثل أمر الردّة التي تعاقب الناس على حكمها من أول سني التشريع بامتداد تلك القرون المتعاقبة على الأمّة بما فيها القرون الخيّرة بعلمائها وعُبَّادها رضوان الله تعالى عليهم. ليس من السهل تغيير الحكم الشرعي الذي قضى به رسول الله r وأقرّه به ربه تبارك وتعالى وقضى به خلفاؤه الراشدون وصحابته المرتضون المزكّون من ربهم y ، واتبعهم فيه التابعون وتابعو التابعين بإحسان حتى يوم الناس هذا. فلا بدّ من التردد طويلاً والمراجعة عقوداً من الزمان حتى يجرؤ مثل ذلك الفقيه المجتهد بالرأي المخالف.
وأمّا الثاني: فليس إرضاء الغرب أو الشرق من الكافرين والمشركين بطريق إلغاء أحكام شرعنا وتبديلها مقصوداً شرعياً، بل هو أمرٌ غريب دخيل على المنتسبين للعلم، والمنتمين لحركات العمل الإسلامي، فإنه لا يجوز بحال أن يُرضّىَ كافر أو مشرك بتبديل شرع الله في حكم من أحكامه أو قول من أقواله وأقوال رسوله r، فإنّ أحكام الشرع يجب أن تبقى ويطمئن لها المسلم ويسلّم لها ويعتقد في صحتها ، ويجب أن تقام الحدود وتمضي الأحكام ولو كره المشركون، ويجب أن يحقّ المسلم الحقّ ويبطل الباطل ولو كره الكافرون.
وهذا الاتجاه ـ كما ترى ـ لا يقبل السكوت عليه، ولا نُعذر بالتغاضي عنه مهما سيق من معاذير ومحاذير ..
دواعي وأسباب الرد والمناقشة:
إنّ من الأسباب والدواعي التي تضطرنا وتدعونا للرد على هؤلاء ومناقشة شبهاتهم والجواب عنها فوق ما ذكرنا من تخطئة الفقهاء ومحاولة تغيير حكم الشرع في الردة، والظن بأنفسهم أنهم يحسّنون وجه الإسلام لدى الغرب بالإساءة إلى الشريعة وعلمائها!! أمورٌ، منها:
أولاً: أنّ هذا الرأي الذي تبنّوه واعترف بعضهم أنه رأي خاص به؛ قد شذّوا به عن إجماع العلماء وخالفوهم فيه مخالفة صريحة، وحاولوا نقض هذا الإجماع. وليتهم خالفوا بدليل يقوَىَ على مواجهة الإجماع الذي انعقد من علماء الأمة!! وقدروا على مناوأة حججهم!! ولكن وجدنا شبههم واهية واهنة، لا تثبت أمام قوة أدلة العلماء، بل تتوارَى من سوء ما استُنبط منه، وخطل ما استدل به وفيه. وسنرى ذلك بتوفيق الله تعالى عندما نعرض لشبهاتهم نناقشها ونجيب عنها.
ثانياً: التقصير الواضح في تقصي الأدلة من النصوص والسنن والوقائع في هذا الأمر الذي ليس بالسهل اليسير ، فهل يجوز أن يُكتفى في مخالفة الناس في مثل هذا الأمر بأول نص يقع في يد المفتي ، وقد ظهر عدم التحقيق حتى في أشهَر نصوص
ثالثاً: الإيحاء بوجوب الاكتفاء بآيات القرآن للدلالة على الأحكام دون السنة وأحاديث النبي r، جنوحاً إلى مذهب ضال من مذاهب الفرق الضالة تجعل الحجة في القرآن وحده، وتردّ الاحتجاج بالسنة، ولا ترى لها حجية ولا اعتباراً، والدعوة إلى واحدية القرآن بمصدرية التشريع دون السنة.
هذا الاتجاه الفاسد يستوحَى من كلامهم واستدلالاتهم، وحقهم في ذلك أن يستحيوا منه.
رابعاً: عدم ظهور مصلحة شرعية أو مدنية للمسلمين في إبداء هذا الرأي والتصريح بالمخالفة في أمر الردة بهذه الطريقة، وفي هذا الوقت بالذات، وقد تكالب العالم الكافر تدعمه أقلام مسلمة ويقويه إعلام مسلم للطعن في الإسلام ورسول الإسلام وعلماء الإسلام ودعاة الإسلام، والمسلم يزداد في كل يوم فتنة في الدين وضعفاً في اليقين واستعداداً للتبرّي من الانتماء للأمّة بسبب حملات التشكيك والتشويه، ونحن أحوج ما نكون إلى تثبيت المسلم على دينه وانتمائه، ودعوة قاداتنا وولاة أمورنا للاحتكام للشريعة والتوفيق بين القرآن والسلطان. فنزيدهم شكوكاً في الإسلام وعلماء الإسلام.
لذلك ولغير ذلك؛ رأيت أن أعرض شبهات المعاصرين في حكم المرتد وأناقشها لأفنّدها، وأُظهر وهنها وبطلانها ما استطعت إليه سبيلاً، محتكماً في المناقشة والتفنيد لقواعد الاعتراض والردّ والإيراد والترجيح، معتمداً فيها على الأدلة الصحيحة والنصوص الصريحة والواضحة مستعملاً التفسير لها بأدوات التفسير وقواعدها الحسان، مجتهداً قدر الإمكان أنْ لا أجرح أحداً بعينه أو أطعن في دينه إلا لِمَا أرى من الضرورة أو الحاجة الشرعية المتضمنة لمصلحة الدعوة والتشريع، رجاء أن يكون البحث موضوعياً علمياً.
وقد جعلت الرسالة لتحقيق هذا الهدف في ثلاثة فصول:
ـ فصل في التعريف بالردّة عن الدين وشرائطها وأنواعها ومراتبها.
ـ وفصل في حكم المرتد ومواقف الأمّة منه.
ـ وفصل ثالث في الشبهات التي أثارها المعاصرون لردّ حكم المرتد، وهي سبع شبهات:
ـ الشبهة الأولى: أن عقوبة المرتد تخالف مبدأ الحريات الأساسية.
ـ الشبهة الثانية: في أنّ حكم المرتد سياسة شرعية:
ـ الشبهة الثالثة: ما روي من خلاف النخعي في المسألة.
ـ الشبهة الرابعة: الاستدلال بآيات عدم الإكراه.
ـ الشبهة الخامسة: نفي وقع قتل لمرتد في عصر التشريع.
ـ الشبهة السادسة: محاولة توجيه حديث قتل المرتد.
ـ الشبهة السابعة: خلاف الأحناف في قتل المرأة المرتدة.
واللهَ وليَّ التوفيق أسأله أن يجعل عملنا كله صالحاً، وأن يجعله لوجهه خالصاً وأن لا يجعل لأحدٍ فيه شيئاً.
والحمد لله رب العالمين.
