مقدمة
أحمد الله رب العالمين حمد الشاكرين ، أتقصّد به التزلّف والتقرّب إليه ، وأرجو به بلوغ رضاه ، والاحتماء بحماه ، والنظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم ، وأصلّي وأسلم على خير خلق الله ، محمد بن عبد الله ، المرسل للعالمين رحمة لهم ، بشيراً ونذيراً ، يهدي إلى صراط مستقيم ، يسوق من ابتع الكتاب الذي جاء به ، والشرع الذي أقامه إلى جنات رب العالمين ينعم فيها أبداً في نعيم مقيم . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعـد :
فإن التفقّه في شريعة الإسلام يحتاج إلى فهم عميق بأهدافها ، يغوص بسهمه الناظرون المجتهدون إلى أغوار النصوص وأعماق بحار الأدلة من وراء الألفاظ ليستخرجوا لآلئ المعاني ومرجانها ، ويواقيت الحِكَم وبُسَّذَها ([1]) ، وواضح الأحكام وأسدّها ، بياناً للكتاب والسنّة لمن طلب العلم والعمل .
وهذا الفهم العميق لأهداف الشرع لا يتأتَّى لمن احتبس بين حروف الألفاظ ، لا يقدر أن يتجاوز ببصيرة الفقه ظواهر ألفاظ النصوص ، يربطها بحكمة الحكيم العليم ، وصولاً إلى مراده ، ليوافق بين المراد والمعنى، وبين الحكم والحكمة ، وبين المدلول والمغزى ، وبين المطلوب والمقدور ، وإلاّ فلن يبلغ من فقه الشريعة إلاّ لمماً ، ومن علم الفقه إلاّ رسماً ، ولن يبلغ قمة الفقهاء ولا غاية الفقه من النذارة النافعة ليرجعوا بها حذرين إلى الصواب والسداد والهدى والرشاد : { فلولا نَفَرَ من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}([2]).
ذلك لأنّ الفقه علمٌ وفهمٌ ، علمٌ بأساليب الدلالة على الأحكام بالألفاظ ، وفهمٌ بغايات التشريع وسننه وأهدافه ، علمٌ بدلالات الألفاظ وطرقها ، وفهمٌ بمقاصد الخطاب والأحكام ، وأسرار التشريع وحِكَمه ، ليجتمع كل ذلك فيكوّن الفقيه القادر على إصابة الحكم الشرعي استنباطاً وتنْزيلاً .
أما المكتفي بعلم أساليب الدلالة أو الدلالات ؛ فقد أتى بنصف الفقه واحتاج إلى استكمال نصفه بفهم غايات الشرع وسنن التشريع وأهداف التكليف ومقاصد الشارع في الخطاب والحكم ، وبذلك يكتمل فقه الفقيه وينضج .
من هنا تظهر أهمية فقه المقاصد بيّناً جليّاً ، إذ بدونه يسعى الفقيه في نصف الطريق إلى الحكم لا يبلغه وإنْ ادعى البلوغ وأفتى ، يذهب ويجيء على خطوتين لا يدري لِمَ التردد دون تحصيل المراد ؛ وما علم أنه يطير بجناح دون جناح ، فكيف يصل ومتى يبلغ ؟ .
إن العبثية تستحيل على الشرع وضعاً وتكليفاً ، كما استحالت في الخلق تقريراً وتصريحاً ، وقد قال تعالى { أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون . فتعالى الله الملك الحق لا إله إلاّ هو رب العرش الكريم} ([3]). يتعالى الله عن العبثية فيما خلق وفيما شرع وفيما حكم ، ومقتضى ذلك أن يكون الشرع لغاية ومقصد ، كما كان الخلق لغاية ومقصد ، وفي ذلك صريح القرآن ) إنّ الله يحكم ما يريد ( ([4]) ، فمن لم يبلغ مقصود الشارع في شرعه وفي حكمه لم يصب كمال الحكم ، ولم يستوف عناصره .
لذلك كان مهمّاً جداً التفقّهُ في مقاصد الشريعة التي اشتملت عليها نصوصها ، وكان غايةً في الأهمية التصنيفُ في فقه المقاصد ومصادره وقواعده الذي هو من لوازم فهم النصوص وقواعده ومصادره ، لأنه لا اكتمال لأحدهما إلاّ بالآخر ، ولا اكتفاء بأحدهما بدون الآخر ، لذلك استحقّ فقه المقاصد أن يُبذل في تصنيفه كل جهد .
الغرض من تأليف الكتاب :
استحقّ أن يبذل كل جهد للتصنيف في هذا الفقه العظيم لِما ظهر له من رفيع المكانة وشريف المقام ، واضطرار العلماء والنسّاك وأهل الفقه إلى معرفته والتفقّه فيه ، لتصاب الأحكام الشرعية ، ويُطمأَنَّ لإنزالها على الوقائع والأحداث ، وعلى ما يوافق مقصود الشارع من خطابه ، ومراده بحكمه ، وهو من الحكمة التي أوتي صاحبها الخير الكثير { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كثيراً ، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَاب} ([5]).
وكان الغرض الأصلي من وضع هذا الكتاب جمع مسائل المقاصد لتدريسها لطلابنا بجامعة الإيمان في تخصص الشريعة بكلية الشريعة ، فلمَّا رأيتهم يستزيدونني مسائلها ويُشعرونني أنهم يستفيدون منها ؛ علت همتي ، وقويت عزمتي ، ونشط ذهني ، واستنّ قلمي ، واشتدّ وطأ الليالي ، واستقام القيل فيها أقوم ما رأيت ، فمضيت أجمع وأسجل وأُنشئ وأناقش وأرتّب وأستدلّ، مستفيداً من مناقشات الطلاب ، واعتراضات إخواني الشيوخ والأساتذة ، مع أني لا أزال أرى النقص بادياً والخلل جاثياً بين المسائل والمباحث والآراء .
ثمّ نشأ أثناء البحث والجمع والإعداد غرضٌ تابعٌ وقصدٌ مكمّلٌ ، وهو أن يكون ما يُجمع ويُكتب متجاوزاً قاعة الدروس وطلاب الشريعة، يتعدّاهم بالنفع إلى غيرهم من طلاب العلم الشرعي ، وسعاة الفكر الإسلامي ، ورعاة الدعوة والصحوة ، ومن يليهم ، ومن يأتي من بعدهم، فيدخل كتاباً إلى البيوت ، ويناجَىَ بحثاً من الباحثين في المكتبات بجوار الكتب النافعة والبحوث المضيفة، لو يُسهم في توجيه باحث حصيف ، أو عالم فقيه ، أو يعين في تنْزيل حكم على واقعة ، أو يقف بالناظرين في آماد نصوص الشرع وأبعادها على حِكَمِ الحكيم ، وأسرار النظم الكريم ، بتوفيق الخبير العليم ، فيمتّعون أذهانهم في حلّ قضايا الأمة، ويحرثون أعمارهم وأوقاتهم بالنافع الرشيد ، ويربّون أفكارهم في استيعاب الحكم ومناطه ، واللفظ ومراده ، والنصّ ورباطه من مقصود الشارع وغايات التشريع ، فيصيب كلٌّ ويحسن ، ويزداد ملكة في الفقه، وتملكاً لنواصي الاستنباط ، ومسالك الاستدلال ، وأدوات الاجتهاد ، فيكون بحقٍّ ريان في علم الشريعة في نفسه ، منقوله ومعقوله ، نافعاً بفقهه لغيره .
منهج الدراسة والبحث :
ولقد سلكت ما يسلكه الباحثون والمصنّفون في كتبهم وتصانيفهم من مناهج وأساليب ، غير أن الغرض الأصلي يخصّ نوعاً من مناهج التأليف لاستيفاء المطلوب به ، حيث أنّ الكتاب رعاية لهذا المقصد والغرض اتخذ ما يلي :
1ـ لم أكثر من المناقشات والردود والاعتراضات والإجابات عليها إكثاراً يخلّ بطبيعة الدراسة ، فليس الكتاب بحثاً علمياً لمتخصصين في المجال ينال به درجة علمية يخضع لأجلها إلى قوانين وأصول ، بل هو في أساسه كتاب منهجي أهمّ عناصره توفّر المادة الأساسية والمعلومة المطلوبة على وجه يعين الطلاب على استيعابها والإلمام بها . ولكن إذا رأيت لزوم الأمر شيئاً من المناقشة والاعتراض والإجابة ؛ لجأت إليها على قدر ما يلزم .
2ـ بما أنه فنّ من فنون العلم الشرعي ، يتعلّق بمسائل وأحكام لابدّ لها من أصل ودليل ؛ اجتهدت في الاستدلال لكل مسألة بقدر المستطاع، سواء اعتمد الاستدلال على المنطوق الصريح ـ وهو أولى الدلالات ـ أو وجد إشارة من النصّ للمطلوب ، أو إيماء يظهر المراد ، أو دلالة أخرى من الدلالات مما اعتمدها الفقهاء الأعلام والأئمة الكبار من لدن صحابة رسول الله r إلى آخر من يُقتدى به من الأخيار . إذ الدعاوى الشرعية لا يسلّم بها إلاّ بدليلها ، والقاعدة الشرعية أنّ على الناقل الصحة وعلى المدّعي الدليل. سواء أخطأت الاستدلال أو أصبت، المهم أني سعيت وحاولت واجتهدت، أسأل الله مثوبة من قصد وأجر من اجتهد.
3ـ غالباً ما أرجّح بين الأقوال بعد موازنة ومناقشة ، وأختار رأياً أتبناه، غير ملزم به أحداً ، ولكني أبرّر ترجيحي ، أسوق له الوجوه المقوية ، والأدلة المعضّدة ، والأقوال المساندة ، حتى إذا اطمأنّ القلب وغلب على الظنّ أو حصل العلم واليقين بصحة ما رأيت أظهرته وسجلته . وفي ذلك تدرّبٌ على التفقّه، وتمرّنٌ على الاجتهاد ، وممارسة للاستنباط ، وفرصةٌ لإعمال الذهن في النظر والاستدلال ، وتطبيق قواعدهما، وسلوك طرائق التأمل في أدلة الشرع أملاً في تكوين الملكة الفقهية ، ورغبة في رفقة الفقهاء ، وتدريباً للطلاب على مناهج الاستدلال والاستنباط واستخراج الأحكام من مظانها ومصادرها وتطبيق قواعد الأحكام .
4ـ حاولت في الكتاب أن ألج إلى الموضوعات وأعيش معها من داخلها، سعياً وراء إبراز علم عملي يقوم على التبسيط في التمثيل أكثر من التبسط في التعريفات والانشغال بمقدمات المسائل التحسينية . إلاّ إذا رأيت أن المقدمات للمسألة أو الموضوع وتعريفه من الأهمية ما تفوق مرتبة التحسين والتكميل إلى الاحتياج إليها في الفهم والاستيعاب ؛ وقفت قليلاً عند تلك المقدمات والتعريفات كما كان الأمر مع مسلك الاستقراء والتعليل بالحكمة، وعند تعريف المصلحة والمفسدة وكذلك المقاصد .
5ـ قصدت إلى ربط كل قاعدة بمسائلها ووقائعها وأمثلتها كي لا تكون الدراسة دولة بين العارفين المتمكّنين فيها ، مستعيناً في إيضاحها على تسهيل العبارة وترتيب المسائل وضبطها في قواعد وجيزة يسهل استظهارها واستذكارها واستحضارها عند الحاجة .
6ـ وفوق ما ذُكر ، خرّجت الأحاديث التي استشهدت بها ، ووثّقت الأقوال والنقول أعزيها إلى أصحابها ومصادرها ، دون كلل أو ملل ، لما يقوله علماؤنا الأكارم: (( من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله)) ([6])، كما عزوت الآيات القرآنية بأرقامها إلى سورها .
موضوعات الكتاب ومباحثه :
لِمَا يُعلم من حاجة علم المقاصد من الكتابة فيه والتصنيف والتأليف ؛ رأيت أن أستوعب في هذه الدراسة أكبر قدر ممكن من مسائل ومباحث وموضوعات هذا العلم النافع ، وعزمت على إكمال عرضها بقدر المستطاع ولو بالإشارة إليها فتحاً لألطاف الذهن في الباحثين ليكملوا المطلوب، لهذا جاء هذا البحث مقسّماً إلى سبعة فصول على النحو الآتي:
الفصل الأول : جُعل في تحديد مصطلح المقاصد وتعريفه في أصل اللغة وفي استعمال الشرع ، وفي اصطلاح علماء الشريعة ، مع إبراز أهمية المقاصد للفقهاء والمتفقهين والعابدين والمجتهدين ، وأصلها ودليل أن للشارع مقاصد في شرعه ، واستعراض عبارات الفقهاء الدالة على إرادتهم المقاصد .
والفصل الثانِي : جُعل في بيان مسالك وطرق الكشف عن المقاصد.
والفصل الثالث : استعرض مراتب المقاصد من جهات شتّى وما يترتّب على رتبها فيما بينها من آثار وأحكام وقواعد .
والفصل الرابع: تناول حجيّة المقاصد وأثرها في بناء الاجتهاد والتشريع.
أمّا الفصل الخامس : فكان في بيان طريق رعاية المقاصد بجلب المصالح ودرء المفاسد .
بينما كان الفصل السادس : في وسائل تحقيق المقاصد .
ثم الفصل السابع : جُعل في الكلام على أنواع المقاصد الشرعية، وهي: مقاصد الخلق ، ومقاصد الأمة ، ومقاصد التنْزيل ، ومقاصد التشريع ، ومقاصد التكليف ، ومقاصد المكلّف .
فأسأل الله العلي القدير أن يمكّن لهذا الكتاب في العقول والقلوب ، فينتفع به المسلمون ، يدعم المسيرة ، ويُرجع السيرة ، ويسهم في تجديد الفقه والدين ، ويعين على فهم الشريعة ومقاصد التشريع والتكليف .
ولا أدّعي كمالاً ولا عصمة ، بل ولا استكمالاً لمباحث هذا العلم ولا عرضها كما يجب أو ينبغي ، بل أشعر بالقصور والتقصير ، والخلل الكبير والكثير ، ولا أروم إلاّ العفو من الله والمغفرة فيما زللت ، والأجر والمثوبة فيما اجتهدت ، ورفعة شأن الكتاب إنْ كان نافعاً ، وتلقّيه بالقبول ما كان صالحاً ، وإخفاء العطوب والعيوب وإظهار خيره وجماله. وأسأله تعالى أن يجعل عملي كله صالحاً ، ويجعله لوجهه خالصاً ، ولا يجعل لأحدٍ فيه شيئاً .
وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه . والحمد لله رب العالمين .
الفقير إلى مغفرة ربه ورحمته
د. عبد الله الزبَيْـر عبد الرحْمن
صنعاء فِي
27 رجب 1420هـ ، 6نوفمبر1999م
([1]) البُسَّذ جوهر أحمر من جنس المرجان يقال إن الجنّ تلقيه في البحر . انظر : لسان العرب ، ج13 ص 406 ، مادة مرجن .
([3]) سورة المؤمنون ، 115 ـ 116 .
([6]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، م1 ج 1 ص1، دار الفكر، طبعة 1414هـ ـ 1993م .
